سورة الأحزاب - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)}
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ} رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لان {صَدَقُوا} في موضع النعت. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء. وكذا {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} والخبر في المجرور. والنحب: النذر والعهد، تقول منه: نحبت أنحب، بالضم. قال الشاعر:
وإذا نحبت كلب على الناس إنهم *** أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر:
قد نحب المجد علينا نحبا ***
وقال آخر:
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل ***
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمي أنس بن النضر- سميت به- ولم يشهد بدرا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بعد ليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة! أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} لفظ الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصيبت يده، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوجب طلحة الجنة».
وفي الترمذي عنه: أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترءون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الاعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أين السائل عمن قضى نحبه»؟ قال الاعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نحبه» قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير.
وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصرف من أحد، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له، ثم تلا هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ}- إلى- {تبديلا} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».
وقيل: النحب الموت، أي مات على ما عاهد عليه، عن ابن عباس. والنحب أيضا الوقت والمدة. يقال: قضى فلان نحبه إذا مات.
وقال ذو الرمة:
عشية فر الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر
والنحب أيضا الحاجة والهمة، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب، وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل، مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا}. قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولان فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل، رضي الله عنهم. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ} في الآخرة {إِنْ شاءَ} أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة، وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. {إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.


{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)}
قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً} قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت {الَّذِينَ كَفَرُوا} هاهنا أبو سفيان وعيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة إلى نجد. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة- بالرعب. {وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا} أمره {عَزِيزاً} لا يغلب.


{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)}
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ} يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان وهم بنو قريظة. وقد مضى خبرهم {مِنْ صَياصِيهِمْ} أي حصونهم واحدها صيصة. قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت *** نساء تميم يبتدرن الصياصيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة: صيصة. قال دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه *** كوقع الصياصي في النسيج الممدد
ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر قرونها، لأنها تمتنع بها. وربما كانت تركب في الرماح مكان الاسنة، ويقال: جذ الله صيصية، أي أصله {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
وهم الرجال. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والذرية، على ما تقدم. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها} بعد. قال يزيد ابن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها.
وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة.
وقال الحسن: هي فارس والروم.
وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، قاله محمد بن إسحاق.
الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، قاله النقاش.
وقيل: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ} مما وعدكموه {قَدِيراً} لا ترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال: تأسرون وتأسرون بكسر السين وضمها حكاه الفراء.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11